فصل: باب الرِّيَاءِ فِى الصَّدَقَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم وَبِهِ تَوْفِيِقى وَعَلَيهِ أَتَوكْل

كِتَاب الزَّكَاةِ

وُجُوبِ الزَّكَاةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ حدثنى أبو سفيان بن حرب فذكر حديث النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يأمر بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ادْعُوهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبِو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَهُ، مَا لَهُ‏)‏، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبِو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ‏)‏، قَالَ‏:‏ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا‏:‏ مُرْنَا بِشَىْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ‏:‏ الإيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ‏؟‏‏)‏ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا‏.‏

قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رأيت أن الله قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فرض الله تعالى الزكاة، بقوله‏:‏ ‏(‏أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ وهذه الآية تشهد لصحة هذه الأحاديث‏.‏

والزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏بنى الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت‏)‏ فهذه دعائم الإسلام وقواعده، لا يتم إسلام من جحد واحدة منها ألا ترى فهم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، لهذا المعنى وقوله‏:‏ ‏(‏والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال‏)‏ وأجمع العلماء على أن مانع الزكاة تؤخذ من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى أهل الردة‏.‏

وكانت الردة على ثلاثة أنواع‏:‏ قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة، وطائفة منعوا الزكاة وقالوا‏:‏ ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، فرأى أبو بكر، رضى الله عنه، قتال الجميع، ووافقه على ذلك جميع الصحابة بعد أن خالفه عمر فى ذلك، ثم بان له صواب قوله، فرجع إليه، فسبى أبو بكر، رضى اله عنه، نساءهم، وأموالهم اجتهادًا منه، فلما ولى عمر، رضى الله عنه، بعده، رأى أن يرد ذراريهم ونساءهم إلى عشائرهم، وفداهم، وأطلق سبيلهم، وذلك أيضًا بمحضر الصحابة من غير نكير، والذى رد منهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعذر أبا بكر فى اجتهاده، وهذا أصل فى أن كل مجتهد مصيب‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ حكم أبو بكر فى أهل الردة بالسبى، وأخذ المال وجعلهم كالناقضين، وحكم فيهم عمر بحكم المرتدين، فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد فله حكم الإسلام إلا من تمادى بعد بلوغه، والذين ردهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعلى هذا الفقهاء، وبه قال ربيعة الرأى، وابن الماجشون، وابن القاسم، وذهب أصبغ بن الفرج إلى فعل أبى بكر، رضى الله عنه، أنهم كالناقضين، وتأويل أبى بكر مستنبط من قوله تعالى، فى الكفار‏:‏ ‏(‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فجعل من لم يلتزم ذلك كله كافرًا يحل دمه وأهله وماله، ولذلك قال‏:‏ ‏(‏والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة‏)‏‏.‏

وقال أبو جعفر الداودى‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ والله الذى لا إله إلا هو، لولا أبو بكر ما عبد الله، قيل له‏:‏ اتق الله يا أبا هريرة، فكرر اليمين، وقال‏:‏ لما توفى رسول الله ارتدت العرب، وكثرت أطماع الناس فى المدينة وأرادته الصحابة على إمساكه بجيش أسامة، والكف عمن منع الزكاة، فقال‏:‏ والله لو لم يتبعنى أحد لجاهدتهم بنفسى حتى يعز الله دينه أو تنفرد سالفتى‏.‏

فاشتد عزم الصحابة حينئذ، وقمع الله أهل المطامع عما أرادوه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا كله يشهد لتقدم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى العلم ورسوخه فيه، وأن مكانه من العلم ونصرة الإسلام لا يوازيه فيه أحد، ألا ترى رجوع جماعة الصحابة إلى رأيه فى قتال أهل الردة، ولا يجوز عليهم اتباعه تقليدًا له دون تبيين الحق لهم، وذلك أنه احتج عليهم أن الزكاة قرينة الصلاة، وأنها من حق المال، وأن من جحد فريضة فقد كفر، ولم يعصم دمه ولا ماله، وأنه لا يعصم ذلك إلا بالوفاء بشرائع الإسلام، ولذلك قال عمر رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق‏)‏، أى عرفت أنه على الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك، فبان لعمر وللجماعة الحق فى قوله، فلذلك اتبعوه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏لو منعونى عناقًا‏)‏ فإنما خرج كلامه على التقليل و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لأن العناق عند أهل اللغة‏:‏ الجدية إذا قويت على الرعى قبل أن يأتى عليها حول، ولا تؤخذ فى الصدقة عند أكثر أهل العلم، ولو كانت عناقًا كلها‏.‏

ومن روى ‏(‏عقالاً‏)‏ فاختلف أهل اللغة فى تأويله، فقال أبو عبيد‏:‏ العقال‏:‏ صدقة عام‏.‏

وقال ابن الكلبى‏:‏ كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة ابن أخيه مصدقًا، فجار عليهم، فقال‏:‏ سعى عقالا فلم يترك لنا سبدًا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين قال أبو عبيد‏:‏ فهذا كلام العرب، وقد قيل‏:‏ هو عقال الناقة، وكان الواقدى يزعم أن هذا رأى مالك بن أنس، وابن أبى ذئب‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والأول أشبه عندنا بالمعنى، والشواهد فى كلام العرب عليه أكثر، وقد روى ابن وهب، عن مالك أن العقال‏:‏ الفريضة من الإبل‏.‏

قال أبو سليمان الخطابى‏:‏ قد خولف أبو عبيد فى هذا التفسير‏.‏

وذهب غير واحد من العلماء إلى تفسيره على غير هذا الوجه، أنكر العبدى ما ذهب إليه أبو عبيد، وقال‏:‏ إنما يضرب المثل فى هذا بالأقل فما فوقه، كما يقول الرجل للرجل إذا منعه الكثير من المال‏:‏ لا أعطيك ولا درهمًا منه‏.‏

وليس بالسائغ أن يقول‏:‏ لا أعطيك ولا مائة ألف‏.‏

وقال‏:‏ ليس بسائغ فى كلامهم أن العقال صدقة عام‏.‏

والبيت الذى احتج به ليس بالبيت الذى يحتج به، قال‏:‏ وأيضًا فإن العرب لم تقل له‏:‏ لا أعطيك إلا عامًا واحدًا‏.‏

وإنما منعوا الصدقات على الأبد، فكيف يقول العقال الذى منعوه‏:‏ صدقة عام، وهم يتأولون أنهم كانوا مأمورين بأدائها إلى النبى صلى الله عليه وسلم دون القائم بعده‏.‏

وسمعت ابن عائشة يقول‏:‏ العقال‏:‏ الحبل‏.‏

وذلك أن الصدقة كانت إذا هبط بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عُقِلَ بكُلِّ عقال بعيران، ولذلك سمى الحبل الذى يقرن به بين البعير‏:‏ القرن، بفتح الراء، والقرن أيضًا‏:‏ البعير المقرون إلى آخر‏.‏

وفيه قول آخر، قاله النضر بن شميل، قال‏:‏ العرب تقول‏:‏ أفرضت إبلكم‏:‏ إذا وجبت فيها الفريضة وأشنقت، والشنق أن يكون فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان إلى خمس وعشرين، فإذا وجبت فيها ابنة مخاض فهى العقال‏.‏

وهذا يشبه رواية ابن وهب‏.‏

وفيه قول آخر، قاله أبو سعيد الضرير، قال‏:‏ العقال‏:‏ كل ما آخذ من الأصناف من الإبل، والبقر، والغنم، والثمار التى يؤخذ منها العشر، ونصف العشر، فهذا كله عقال فى صنفه، وسمى عقالاً‏:‏ لأن المؤدى إليه قد عقل عنه طلبة السلاطين وتبعته، وعقل عنه الإثم الذى يطلبه الله به إذا منع الزكاة، ولذلك سميت العاقلة التى تؤدى دية الخطأ، لأنها إذا فعلت عقلت عن وليها تبعة أولياء المقتول‏.‏

وفيه قول آخر، قاله المبرد، قال‏:‏ إذا أخذ المصدق من الصدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنها قالوا‏:‏ أخذ عقالاً، فإذا أخذ الثمن، قالوا‏:‏ أخذ نقدًا‏.‏

وأنشد‏:‏

أتانا أبو الخطاب يضرب طبله *** فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدًا

وفى أكثر الروايات‏:‏ ‏(‏لو منعونى عناقًا‏)‏ وهو مشاكل لما ذهب إليه العبدى فى معنى العقال، وفى رواية أخرى ذكرها ابن الأعرابى‏:‏ ‏(‏والله لو منعونى جديًا أذوط لقاتلتهم عليه‏)‏، قال‏:‏ والذوط‏:‏ الصغير الفك والذقن‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ ‏(‏ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم الصلاة، والزكاة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث، فإنما أمره أن يدعو إلى الشهادة من لم يكن أسلم من أهل الكتاب، وقد جاء هذا بينًا فى حديث معاذ فى باب‏:‏ لا تؤخذ كرائم أموال الناس بعد هذا فى الصدقة‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ‏:‏ إنك تأتى أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات‏)‏، وقد تقدم معنى قول الرجل‏:‏ ‏(‏والله لا أزيد على هذا‏)‏ فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته، وقد تقدم فيه معنى حديث وفد عبد القيس أيضًا‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى أيوب‏:‏ ‏(‏أرب ما له‏)‏، فإنه يروى بكسر الراء، وفتح الباء، ويروى‏:‏ ‏(‏أرَبٌ ما له‏)‏ بفتح الراء وضم الباء وتنوينها، وفسر ابن قتيبة الرواية بكسر الراء وفتح الباء، فقال‏:‏ هو من الأراب مأخوذ، والأراب‏:‏ الأعضاء، واحدها‏:‏ أرب، ومنه قيل‏:‏ قطعته أربًا أربًا، أى عضوًا عضوًا، قال‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏أرب ما له‏)‏ أى سقطت أعضاؤه وأصيبت، وهى كلمة مقولة لا يراد بها إذا قيلت وقوع الأمر، كقولهم‏:‏ عقرى حلقى، أى عقرها الله وحلقها، أى أصابها بوجع فى حلقها، وكقولهم‏:‏ قاتله الله، وتربت يداك، وأشباه هذا كثير‏.‏

ومن رواه ‏(‏أرَبٌ ما له‏)‏ فمعناه نحو معنى قوله‏:‏ فى حديث سعد بن الأخرم حين أخذ بزمام ناقته صلى الله عليه وسلم بعرفة، وهو يريد أن يسأله، فصاح به الناس من أصحابه، فقال‏:‏ ‏(‏دعوه، فأربٌ ما جاء به، فقال‏:‏ يا رسول الله، دلنى على عمل يقربنى من الجنة، ويباعدنى من النار، فقال‏:‏ إن كنت أوجزت فى الخطبة، فقد أعظمت وأطولت، فقال‏:‏ تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحب للناس ما تحب أن يؤتى إليك، وما كرهت أن يؤتى إليك فدع الناس منه، خل عن زمام الناقة‏)‏‏.‏

رواه الأعمش، عن شمر، عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، أو عن عمه، عن النبى صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تكون هذه القصة هى التى روى أبو أيوب فى حديثه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر قوله‏:‏ ‏(‏ما له ما له‏)‏ إلا أنه أنكر عليه حبسه زمام ناقته أو غير ذلك مما لم يكن له فعله، والله أعلم، وفسر الطبرى قوله‏:‏ ‏(‏فأرب ما جاء به‏)‏، وقال معناه‏:‏ فحاجة ما جاءت به، والأرب‏:‏ الحاجة، و ‏(‏ما‏)‏ التى فى قوله‏:‏ ‏(‏ما جاء به‏)‏ صلة فى الكلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏، والمعنى فأرب جاء به‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وعلى هذا التقدير تكون ‏(‏ما‏)‏ التى فى حديث أبى أيوب فى قوله‏:‏ ‏(‏أربٌ ما له‏)‏ زائدة، كأنه قال‏:‏ أرب له، هذا أحسن من قول ابن قتيبة‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ وقوله فى حديث ابن أخرم‏:‏ ‏(‏إن كنت أوجزت فى الخطبة‏)‏ ولم تكن هناك خطبة، فإن العرب تسمى كل كلام وسؤال‏:‏ خطبة، لأنه مشتق من الخطاب‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله فى حديث أبى أيوب‏:‏ ‏(‏وتصل الرحم‏)‏ بعد الصلاة والزكاة، يدل أن السائل كان محتاجًا إلى التنبيه على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم تعريف أمته بما هم إليه أحوج‏.‏

باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ

وقوله‏:‏ ‏(‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ جَرِيرُ، بَايَعنا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الباب فى معنى الذى قبله، وقد أخبر الله تعالى فى هذه الآية أن الأخوة فى الدين إنما تستحق بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ودل ذلك أنه من لم يقمها فليس بأخ فى الدين، وفى هذه الآية حجة لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى قتاله لأهل الردة حين منعوا الزكاة، وقد أجمع العلماء فى الرجل يقضى عليه القاضى بحق لغيره فيمتنع من أدائه أن واجبًا على القاضى أن يأخذه من ماله، فإن نصب الحرب دونه وامتنع، قاتله حتى يأخذه منه، فإن أتى القاتل على نفسه فشر قتيل، فحق الله الذى أوجبه للمساكين أولى بذلك وذكر النصح لكل مسلم فى البيعة مع الصلاة والزكاة يدل على حاجة جرير وقومه إلى ذلك، وكان جرير رئيس قومه‏.‏

باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ

وَقَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34- 35‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَأْتِى الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِى الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلا يَأْتِى أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلا يَأْتِى بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِى بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا النّبِىّ‏:‏ ‏(‏لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏ الآيَةَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ تأول العلماء أن قوله‏:‏ ‏(‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ الآية، وعيد لمن منع الزماة، ومن أدى زكاة ماله فليس بداخل فى هذه الآية‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذه الآية فرض زكاة الذهب، ولم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الذهب من طريق الخبر كما نقل عنه زكاة الفضة، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فى الرِّقة ربع العشر، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة‏)‏، إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته‏)‏ يدخل فى عمومه الذهب والفضة بالدليل، وإنما لم ترو زكاة الذهب من طريق النص عن النبى صلى الله عليه وسلم والله أعلم، لكثرة الدراهم بأيديهم، وأن بها كان تجارتهم، ولقلة الذهب عندهم، وكان صرف الدينار حينئذ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمس أواق من الفضة عشرين مثقالاً، وجعلوه نصاب زكاة الذهب وتواتر العمل به وعليه جماعة العلماء أن الذهب إذا كانت عشرين مثقالاً وقيمتها مائتا درهم أن فيها الزكاة نصف دينار إلا ما اختلف فيه عن الحسن أنه قال‏:‏ ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاة وهو شذوذ لا يلتفت إليه‏.‏

وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمتها مائتى درهم ففيها ربع العشر، وإن كان أقل من عشرين مثقالاً، وهذا قول عطاء وطاوس والزهرى‏.‏

واختلفوا فى تأويل قوله صلى الله عليه وسلم فى الإبل‏:‏ ‏(‏ومن حقها أن تحلب على الماء‏)‏ فذهبت طائفة إلى أن فى المال حقًا سوى الزكاة‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏حق الإبل أن تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، وتقعد الظهر، ويضرب الفحل، ويسقى اللبن، وتأولوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 24، 25‏]‏، فقالوا‏:‏ مثل فك العانى، وإطعام الجائع الذى يخاف ذهاب نفسه، والمواساة فى المسغبة والعسرة‏.‏

وهو قول الحسن البصرى، والشعبى، وعطاء، وطاوس، وتأول مسروق فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ‏(‏قال‏:‏ هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته صلته، فيجعل حية طوقها، وأكثر العلماء على أن ذلك كله فى الزكاة المفروضة، ولا حق عندهم فى المال سوى الزكاة، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ومن حقها أن تحلب على الماء‏)‏، أن ذلك حق فى كرم المواساة، وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان له مال، فلم يؤد زكاته مثل له‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ والزكاة لا يفهم منها إلا زكاة الفرض، وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏(‏سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ‏(‏أنه جاء فى مانع الزكاة، وفى هذا الحديث خلاف تأويل مسروق، وقد انتزع ابن مسعود بهذه الآية فى مانع الزكاة أيضًا‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحدّ ولا يحدّ لها وقت فتجب بها المواساة للضرورة التى تنزل من ضيف مضطر، أو جائع يعلم أنه مضطر، أو غاز مثله أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التى يزول بها حد الضرورة‏.‏

والشجاع‏:‏ الحية الذى يقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، والزبيبتان نقطتان منتفختان فى شدقيه كالرغوة، يقال‏:‏ إنهما يبرزان حين يهج ويغضب‏.‏

وقيل‏:‏ إنهما سوداوان على عينيه، وهى علامة الحية الذكر المؤذى‏.‏

وقيل‏:‏ الأقرع الذى أبيض رأسه من كثرة السم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لها يعار‏)‏ قال صاحب الأفعال‏:‏ اليعار‏:‏ صوت المعزى، وقد يعرت تيعر، واليعر‏:‏ الجدى، واليعور‏:‏ الشاة التى تبول على حالبها وتَبْعَرُ فيفسد اللبن‏.‏

وثغت الشاة تثغو ثغاءٌ، ورغاء البعير رُغاءً‏:‏ صاح‏.‏

باب مَا أُدِّىَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ

لِقَوْلِ الرسول‏:‏ ‏(‏لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ له أَعْرَابِىٌّ‏:‏ أَخْبِرْنِى عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ قَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأمْوَالِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِى ذَرٍّ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِى هذه الآية‏:‏ ‏(‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ‏(‏قَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ نَزَلَتْ فِى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ‏:‏ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فِى ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِى، فَكَتَبَ إِلَىَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَىَّ النَّاسُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِى قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ ‏[‏الَّذِى‏]‏ أَنْزَلَنِى هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَىَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ‏.‏

- وفيه‏:‏ الأحْنَفِ، قَالَ‏:‏ جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، فيَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَلا أَدْرِى مَنْ هُوَ، قُلْتُ‏:‏ لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا مقالتك، قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِى خَلِيلِى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِى فِى حَاجَةٍ، قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ‏)‏، وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ الكنز فى كلام العرب كل شىء مجموع بعضه إلى بعض فى بطن الأرض كان أو على ظهرها، ولذلك تقول العرب للشىء المجتمع‏:‏ مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض، ومنه قول الهُذلى‏:‏ لا دَرَّ دَرِّىَ إن أطعمت نازلكم قِرْفَ الحَتِىِّ وعندى البُرُّ مكنوز الحتى‏:‏ سويق المقل‏.‏

واختلف السلف فى معنى الكنز، فقال بعضهم‏:‏ هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، وقالوا‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ينفقونها فى سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ لا يؤدون زكاتها، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وجماعة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، وإن أديت زكاته‏.‏

رواه جعدة بن هبيرة، عن على بن أبى طالب، قال‏:‏ أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، وقال غيره‏:‏ الكنز ما فضل عن حاجة صاحبه إليه‏.‏

وهذا مذهب أبى ذر‏.‏

روى أن نصل سيف أبى هريرة كان من فضة فنهاه عنه أبو ذر، قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها‏)‏‏.‏

واتفق أئمة الفتوى على قول عُمر، وابن عمر، وابن عباس، واحتج له الطبرى بنحو ما نزع به البخارى، فقال‏:‏ الدليل على أن كل ما رأيت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان رسوله فى خمس أواق ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله تعالى على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال، وإن بلغ ألوفًا إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولا يحرم على صاحبه اكتنازه، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب، وإنما توعد الله بالعقاب على كل مال لم تؤد زكاته، وليس فى القرآن بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذى إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جامعة الوعيد، فكان معلومًا أن بيان ذلك إنما يؤخذ من وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما بيناه أنه المال الذى لم يؤد حق الله منه من الزكاة دون غيره من المال‏.‏

قال غيره‏:‏ وإنما كتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان وقع فى جيشه تشتيت من ميل بعضهم إلى قول أبى ذر، فلذلك أقدمه عثمان إلى المدينة، إذ خشى الفتنة فى الشام ببقائه، لأنه كان رجلاً شديدًا لا يخاف فى الله لومة لائم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبى ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلبه، وصانه معاوية من أن يخرجه فتكون عليه وصمة‏.‏

وقد ذكر الطبرى‏:‏ أنه حين كثر الناس عليه بالمدينة يسألونه عن سبب خروجه من الشام، خشى عثمان من التشتيت بالمدينة ما خشيه معاوية بالشام، فقال له‏:‏ تنح قريبًا‏.‏

فقال‏:‏ إنى والله لن أدع ما كنت أقوله فسار إلى الربذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام‏.‏

وفى هذا من الفقه‏:‏ أنه جائز للإنسان الأخذ بالشدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن أدى ذلك إلى فراق وطنه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه جائز للإمام أن يخرج من توقع ببقائه وقوع فتنة بين الناس‏.‏

وفيه‏:‏ ترك الخروج على الأئمة، والانقياد لهم، وإن كان الصواب فى خلافهم‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الاختلاف والاجتهاد فى الآراء، ألا ترى أن عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة لم يردوا أبا ذر عن مذهبه، ولا قالوا له‏:‏ إنه لا يجوز لك اعتقاد قولك، لأن أبا ذر نزع بحديث النبى صلى الله عليه وسلم واستشهد به، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أحب أن لى مثل أُحُدٍ ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير‏)‏، وكذلك حين أنكر على أبى هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ترك صفراء، أو بيضاء كوى بها‏)‏‏.‏

وهذا حجة فى أن الاختلاف فى العلم باق إلى يوم القيامة، لا يرتفع إلا بإجماع‏.‏

وقد روى ابن أبى شيبة، عن محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلى، عن الأحنف بن قيس، قال‏:‏ كنت جالسًا فى مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا منه حتى انتهى إلى الحلقة التى كنت فيها، فثبتُّ وفروا، فقلت‏:‏ على ما يفر الناس منك‏؟‏ قال‏:‏ إنى أنهاهم عن الكنوز، قلت‏:‏ إن أعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها‏؟‏ قال‏:‏ أما اليوم فلا، ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏بشر الكانزين برضف‏)‏ وجوب مبادرة إخراج الزكاة عند حولها والتحذير من تأخيرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار‏)‏ فهو مثل لتعجيل الزكاة، يريد ما أحب أن أحبس ما أوجبه الله وحَلَّ وقته بقدر ما بقى من النهار‏.‏

والرضف‏:‏ الحجارة المحماة‏.‏

والنغض‏:‏ الغضروف من الكتف‏.‏

الخطابى‏:‏ نغض الكتف‏:‏ فرغه، وسمى نغضا، لأنه ينغض من الإنسان إذا أسرع، أى يتحرك‏.‏

ومنه يقال‏:‏ نغض الرجل رأسه، إذا حركه‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسينغضون إليك رءوسهم ‏(‏‏]‏ الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِى حَقِّهِ

- فيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُود، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا‏)‏‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام‏:‏ فالأول أن ينفق على نفسه، وأهله، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم، ولا مسرف فى ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك‏)‏‏.‏

وقسم ثان‏:‏ وهو أداء الزكاة، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له‏.‏

وقد قيل‏:‏ من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل‏.‏

وقسم ثالث‏:‏ وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق، وإطعام الجائع، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله‏)‏‏.‏

فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه، وأنفقه فى حقه، ووجب حسده، وكذلك من آتاه الله حكمته فعلمها فهو وارث منزلة النبوة، لأنه يموت ويبقى له أجر من علّمه، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله، والله يؤتى فضله من يشاء‏.‏

باب الرِّيَاءِ فِى الصَّدَقَةِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ الآية‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏صَلْدًا‏}‏ لَيْسَ عَلَيْهِ شَىْءٌ‏.‏

والرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال، لأن المرائى إنما يعمل من أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضى بحمد الناس عوضًا عن حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل‏:‏ ‏{‏من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك‏)‏‏.‏

وجاء فى الحديث أن الرياء الشرك الأصغر‏.‏

وكذلك المن والأذى يبطلان الصدقة، لأن المنان بها لم يتق الله فيها، ولا أخلصها لوجهه تعالى، ولا ينفع عمل بغير نية، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى‏)‏، وكذلك المؤذى لمن تصدق عليه يبطل إثمُ الأذى أجرَ الصدقة، وقد نهى الله تعالى عن انتهار السائل، فما فوق ذلك من الأذى أَدْخَلُ فى النهى، والله أعلم‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ كان ينبغى للبخارى، رحمه الله، أن يخرج فى هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فهو يشبه التبويب، لأن من ابتغى وجه الله يسلم من الرياء، وابتغاء غير وجه الله هو عين الرياء‏.‏

باب لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلا يَقْبَلُ إِلا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 263‏]‏ الآية‏.‏

استدلال البخارى بهذه الآية صحيح وذلك أنه لما كان حرمانُ السائل، والقولُ المعروف والاستغفار له خيرًا من صدقة يتبعها أذى، صح وثبت أن الصدقة إذا كانت من غلول أنها غير متقبلة، لأن الأذى للمسلمين فى الغلول أشد عند الله من أذى المتصدق عليه وحده‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ كان ينبغى للبخارى أن يخرج فى هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ فهو أليق بالترجمة، والحديثُ الذى خرجه فى الباب بعد هذا وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تصدق بصدقة من كسب طيب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ يصلح فيه‏.‏

باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِا، كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أو فصيله، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويربى الصدقات ‏(‏يعنى يضعف أجرها لربها وينميها، ألا ترى قوله- عليه السلام-‏:‏ ‏(‏ثم يربيها كما يربى أحدكم فلوه، أو فصيله‏)‏، ولما كان الربا قد أخبر الله أنه يمحقه، لأنه حرام دلت الآية أن الصدقة التى تربو وتتقبل لا تكون إلا من غير جنس الممحوق، وذلك الحلال، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏ولا يقبل الله إلا الطيب‏)‏‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ الزكاة فى اللغة أصلها الزيادة، سميت بذلك لأنها تزيد فى المال الذى يخرج منه‏.‏

يقال‏:‏ زكا الشىء زكاة، إذا زاد، والزكا بالقصر معناه‏:‏ زوجان ذكر وأنثى، أو شيئان مصطحبان يجريان مجرى الذكر والأنثى، والمراد بذكر اليمين فى هذا الحديث‏:‏ التحفى بالصدقة، والرضا عنها، والحض عليها، والله تعالى لا يوصف بالجوارح فيكون له يمين وشمال‏.‏

قال أبو بكر بن فورك‏:‏ المراد بوصف الله تعالى باليمين أنه لما وصف باليدين، ويد الجارحة تكون إحداهما يمينًا، والأخرى شمالاً، واليسرى تنقص أبدًا فى الغالب عن اليمين فى القوة، والبطش عرفنا النبى صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏وكلتا يديه يمين‏)‏ كمال صفة الله تعالى أنه لا نقص فيها، وأن ما وصف به من اليدين ليس كما يوصف به ذو الجارحة التى تنقص مياسره عن ميامنه‏.‏

باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ

- فيه‏:‏ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، فيَقُولُ الرَّجُلُ‏:‏ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلا حَاجَةَ لِى بِهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ‏:‏ لا أَرَبَ لِى فيه‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَدِىَّ بْنَ حَاتِمٍ يَقُولُ‏:‏ كُنْتُ عِنْدَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا الْعَيْلَةُ، فَإِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ فلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ‏:‏ أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً، فَلَيَقُولَنَّ‏:‏ بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ‏:‏ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً‏؟‏ فَلَيَقُولَنَّ‏:‏ بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، فلا يَجِدُ من يقبلها، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ‏)‏‏.‏

ففى هذا الباب‏:‏ الحض على الصدقة، والترغيب فيها ما وُجِد أهلها المستحقون لها، خشية أن يأتى الزمان الذى لا يوجد فيه من يأخذ الصدقة، وهو زمان كثرة المال وفيضه، قرب الساعة‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة‏)‏ حض على القليل من الصدقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يجد فبكلمة طيبة‏)‏ حض أيضًا على أن لا يحقر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يتقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يستوجب بها النار‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قلة الرجال، وكثرة النساء‏)‏، فهذا والله أعلم يكون عند ظهور الفتن، وكثرة القتل فى الناس، وهذا كله من أشراط الساعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث عدى‏:‏ ‏(‏ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب‏)‏، فإنما هذا على جهة التمثيل ليفهم الخطاب لأن الله تعالى لا يحيط به شىء، ولا يحجبه حجاب، تعالى الله عن ذلك، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فينا من الحجب، والضعف عن الإدراك لنوره فى الدنيا، فإذا كان فى الآخرة، وكشف تلك الحجب عن أبصارنا فقواها حتى تدرك معاينة ذاته كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى يهم رب المال من يقبل صدقته‏)‏، قال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ أهمنى الأمر مثل أغمنى، وهمنى هما‏:‏ رابنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بغير خفير‏)‏ فالخفير‏:‏ المجير، والخفارة‏:‏ الذمة‏.‏

باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265، 266‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو مَسْعُود، قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا‏:‏ مُرَائِى، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو مَسْعُود‏:‏ كَانَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَدِىَّ، سَمِعْتُ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، دَخَلَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏اتقوا النار ولو بشق تمرة‏)‏ حض على الصدقة بالقليل، وقد تصدقت عائشة بتمرة، وتصدقت بحبة عنب، وقالت‏:‏ كم فيها من مثاقيل الذر‏.‏

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبى تميمة الهجيمى‏:‏ ‏(‏لا تحقرن شيئًا من المعروف ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى‏)‏‏.‏

وفى حديث أبى مسعود ما كان عليه السلف من التواضع، والحرص على الخير واستعمالهم أنفسهم فى المهن والخدمة رغبةً منهم فى الوقوف عند حدود الله، والاقتداء بكتابه، وكانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن إلا للعمل به، فكانوا يحملون على ظهورهم للناس ويتصدقون بالثمن لعدم المال عندهم حينئذ، وقوله‏:‏ ‏(‏نحامل‏)‏ يعنى نحمل لغيرنا، ونحامل وزنه، تفاعل، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين كالمبايعة والمعاملة، ألا ترى أنه حين نزلت‏)‏ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏ شق عليهم العمل بها، فنسخت عنهم بقوله‏:‏ ‏(‏فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وقال على بن أبى طالب‏:‏ إن فى كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلى، ولا يعمل بها أحد بعدى، كان لى دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم حتى نفذ، ثم نسخت‏.‏

وفى حديث عائشة أن النفقة على البنات، والسعى عليهن من أفضل أعمال البر، وأن ذلك ينجى من النار‏.‏

باب فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعَ فِيهِ وَلا خُلَّةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‏)‏، قُلْتَ‏:‏ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ‏.‏

فيه‏:‏ أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشى الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق فى هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار فى فعله، ولذلك قال ميمون بن مهران حين قيل له‏:‏ إن رقية امرأة هشام ماتت، وأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون‏:‏ يعصون الله فى أموالهم مرتين، يبخلون بها، وهى فى أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها‏.‏

بَاب

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَيُّنَا أَسْرَعُ لُحُوقًا بك‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَطْوَلُكُنَّ يَدًا‏)‏، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ‏.‏

هذا الحديث سقط منه ذكر زينب، لأنه لا خلاف بين أهل الأثر والسير أن زينب أول من مات من أزواج النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال‏:‏ صليت مع عمر بن الخطاب على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم توفيت بعده‏.‏

وروى ابن أبى خيثمة، قال‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو، قال‏:‏ حدثنا المسعودى، قال‏:‏ حدثنا القاسم بن معن، قال‏:‏ كانت زينب بنت جحش أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقًا به‏.‏

وروى مسلم فى كتابه حديث عائشة على خلاف ما ذكره البخارى، فقال‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى السينانى، قال‏:‏ حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسرعكن لحاقًا بى أطولكن يدًا‏)‏، قالت‏:‏ فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، فكانت أطولنا يدًا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق‏.‏

وذكر مسلم الحديث الطويل الذى فيه إرسال أزواج النبى لفاطمة إلى النبى صلى الله عليه وسلم يسألنه العدل فى بنت أبى قحافة، قالت عائشة‏:‏ فأرسل أزواج النبى صلى الله عليه وسلم زينب، وهى التى كانت تسامينى منهن فى المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها فى العمل الذى تتصدق به، وتتقرب به إلى الله عز وجل‏.‏

وقال المهلب‏:‏ اليد فى هذا الحديث‏:‏ الإنعام والإفضال، وفيه‏:‏ أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم سبق إليهن أنه أراد طول اليد التى هى الجارحة، فلما لم تتوف سودة التى كانت أطولهن يد الجارحة، وتوفيت زينب قبلهن علمن أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد طول العضو، وإنما أراد بذلك كثرة الصدقة، لأن زينب هى التى كانت تحب الصدقة‏.‏

باب صَدَقَةِ الْعَلانِيَة

‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 274‏]‏ اختلف العلماء فى المعنى الذى نزلت فيه هذه الآية، فروى مجاهد عن ابن عباس، أنها نزلت فى على بن أبى طالب، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهمًا، وبالنهار درهمًا، وسرًا درهمًا، وعلانية درهمًا‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ نزلت فى الذين يرتبطون الخيل خاصة فى سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار‏.‏

وروى عن قتادة قول ثالث‏:‏ أنها نزلت فيمن أنفق ماله فى سبيل الله، لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا عن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم‏)‏ هؤلاء قوم أنفقوا أموالهم فى سبيل الله الذى افترض وارتضى من غير سرف ولا إملاق، ولا تبذير، ولا فساد‏.‏

ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب صَدَقَةِ السِّرِّ

وَقَالَ الرسول، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ الآيَةَ‏.‏

عند كافة العلماء أن صدقة السر فى التطوع أفضل من العلانية، وتأولوا قوله، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏)‏‏.‏

أن المراد بذلك صدقة التطوع، وروى عن ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏(‏إن تبدوا الصدقات فنعما هى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ جعل الله تعالى صدقة التطوع فى السرِّ تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفرض علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض، والنوافل فى الأشياء كلها‏.‏

وقال سفيان‏:‏ ‏(‏إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ‏(‏قال‏:‏ سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏)‏ مثل ضربه فى المبالغة بالاستتار بالصدقة، لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر أن لا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تتصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ لأن الشمال لا توصف بالعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ أى والله بما تعملون فى صدقاتكم من إخفائها وإعلانها، وفى غير ذلك من أموركم ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه شىء منه، فهو محيط به مُحْصٍ له على أهله حتى يوفيهم جزاء قليله وكثيره‏.‏

باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِىٍّ وَهُوَ لا يَعْلَمُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ رَجُلٌ‏:‏ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَيْ غَنِىٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِىٍّ، فَأُتِىَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِىُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏فأتى فقيل له‏:‏ أما صدقتك على سارق‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث، يعنى أنه أُرى ذلك فى المنام، والرؤيا حق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلعله أن يستعف عن سرقته‏)‏، فإن لعل من الله على معنى القطع والحتم، ودل ذلك أن صدقة الرجل على السارق والزانية والغنى قد تقبلها الله، لأنها إذا كانت سببًا إلى ما يرضى الله فلا شك فى فضلها وقبولها‏.‏

واختلف العلماء فى الذى يعطى الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم تبين غناه، فقال الحسن البصرى‏:‏ إنها تجزئه‏.‏

وهو قول أبى حنيفة، ومحمد، قالوا‏:‏ لأنه قد اجتهد، وأعطى فقيرًا عنده، وليس عليه إلا الاجتهاد‏.‏

وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلمًا بدليل هذا الحديث قاله المهلب‏.‏

وقال أبو يوسف، والثورى، والحسن بن حى، والشافعى‏:‏ لا تجزئه، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ فى اجتهاده كما أنه لو نسى الماء فى رحله، وتيمم لصلاته لم تجزئه صلاته‏.‏

واختلف قول ابن القاسم‏:‏ هل تجزئه أم لا، فقال ابن القصار‏:‏ وقول مالك يدل على هذا، لأنه نص فى كفارة اليمين إن أطعم الأغنياء أنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أَوْلَى‏.‏

وأما الصدقة على السارق والزانية، فإن العلماء متفقون أنهما إن كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة‏.‏

باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لا يَشْعُرُ

- فيه‏:‏ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، بَايَعْتُ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَبِى وَجَدِّى وَخَطَبَ عَلَىَّ فَأَنْكَحَنِى، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِى يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ‏)‏‏.‏

اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الابن، ولا إلى الأب، إذا كانا ممن تلزم المزكى نفقتهما لأنها وقاية لماله، ولم يختلفوا أنه يجوز له أن يعطيهما ما شاء من صدقة تطوع أو غيرها‏.‏

والمراد بهذا الحديث عندهم صدقة التطوع‏.‏

واختلفوا فى دفع الزكاة إلى سائر القرابات المحتاجين الذين لا تلزم النفقة عليهم، فروى عن ابن عباس أنه يجزئه، وهو قول عطاء، والقاسم، وسعيد بن المسيب، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وقالوا‏:‏ هى لهم صلة وصدقة‏.‏

وقال ابن المسيب‏:‏ أولى الناس بزكاة مالى يتيمى ومن كان منى‏.‏

وروى مطرف عن مالك أنه لا بأس أن يعطى قرابته من زكاته إذا لم يعط من يعول، فقال‏:‏ رأيت مالكًا يعطى قرابته من زكاته، وهو قول أشهب‏.‏

وقال الحسن البصرى وطاوس‏:‏ لا يعطى ذوى قرابته من الزكاة شيئًا‏.‏

وذكر ابن المواز، عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته، وإن لم تلزمه نفقتهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن للابن أن يخاصم أباه، وليس بعقوق إذا كان ذلك فى حق، على أن مالكًا قد كره ذلك، ولم يجعله من باب البر‏.‏

وفيه‏:‏ أن ما خرج إلى الابن من مال الأب على وجه الصدقة، أو الصلة أو الهبة لله، وحازه الابن أنه لا رجوع للأب فيه، بخلاف الهبة التى للأب أن يعتصرها ولم يكن له أن يقبض الصدقة وكل هبة وصدقة وعطية لله تعالى، فليس له أن يقبضها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه‏)‏‏.‏

وسيأتى حكم الرجوع فى الهبات، ثم الاختلاف فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله‏.‏

باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

لما كانت اليمين أفضل من الشمال، وكانت الصدقة يراد بها وجه الله، استحب فيها أن تناول بأشرف الأعضاء، وأفضل الجوارح‏.‏

وقد تقدم فى باب صدقة السر أن إخفاء النوافل والاستتار بها أفضل عند الله من إظهارها، بخلاف الفرائض‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏)‏ مثل ضربه بالاستتار بالصدقة لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر ألا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ لأن الشمال لا توصف بالعلم، وبالله التوفيق‏.‏

باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد‏)‏ وزاد‏:‏ عن أبى موسى، قال النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الخازن المسلم الأمين الذى ينفق ما أُمر به كاملاً موفرًا طيبًا نفسه، فيدفعه إلى الذى أُمر له به أحد المصدقين‏)‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، فدلت هذه الآية على اشتراك المتعاونين على الخير فى الأجر، وجاء هذا المعنى فى هذه الأحاديث، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال أحد غيره بغير إذنه، لكن لما كانت امرأة الرجل لها حق فى ماله، وكان لها النظر فى بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون إضاعة للمال، ولا إسرافًا، لكن بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه‏.‏

فأخبر صلى الله عليه وسلم أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب، ويؤجر الخادم الممسك لذلك، وهو الخازن المذكور فى الحديث، إلا أن مقدار أجر كل واحد منهم لا يعلمه إلا الله، غير أن الأظهر أن الكاسب أعظم أجرًا‏.‏

وقوله‏:‏ باب من أمر خادمه بالصدقة، ولم يناول بنفسه ينفك من قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏وللخادم مثل ذلك‏)‏، لأن الخادم لا يجوز أن يتصدق من مال مولاه إلا بما أمره بالصدقة به، بخلاف الزوجة، لأن الخادم ليس له فى متاع مولاه تصرف، ولا حكم، وإنما هو خازن عليه فقط، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم شرط فى الخازن أن يؤدى الذى أمر به موفرًا طيبًا به نفسه، وكذلك يصح له الأجر، لأن من لم تطب نفسه على فعل الخير فلا نية له فيه، لأنه لا عمل إلا بنية، وكذلك إذا نقص المسكين مما أمر له به فقد خانه، فنقص أجره وخشى عليه الإثم‏.‏

باب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى

وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ‏.‏

قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ‏)‏، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أَبِى بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ‏.‏

وَنَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ‏.‏

وقال كَعْب‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حَكِيمِ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ‏)‏‏.‏

وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول‏)‏ دليل على أن النفقة على الأهل أفضل من الصدقة، لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا صدقة إلا عن ظهر غنى‏)‏ أى لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله، لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل أولى، وليس لأحد إتلاف نفسه، وإتلاف أهله بإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه، وأهله، إذ حق نفسه وحق أهله أوجب عليه من حق سائر الناس، ولذلك قال‏:‏ ‏(‏وابدأ بمن تعول‏)‏، وقال لكعب‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ هذا المعنى يعارض فعل أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، حين تصدق بماله كله، وأمضاه النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ قد اختلف العلماء فيمن تصدق بماله كله فى صحة بدنه وعقله، فقالت طائفة‏:‏ ذلك جائز إذا كان فى صحته‏.‏

واعتلوا بخبر أبى بكر حين تصدق بماله كله، وأن النبى صلى الله عليه وسلم قَبِلَ ذلك ولم ينكره ولا رَدَّهُ، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ذلك كله مردود، ولا يجوز شىء منه‏.‏

رُوى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه رد على غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فَرَدَّ عمر ذلك كله‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الجائز من ذلك الثلث، ويرد الثلثان واعتلوا بحديث كعب بن مالك، وأن النبى صلى الله عليه وسلم رَدَّ صدقته إلى الثلث‏.‏

هذا قول مكحول، والأوزاعى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف‏.‏

روى ذلك عن مكحول‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب فى ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله فى صحة بدنه وعقله جائزة، لإجازة النبى صلى الله عليه وسلم صدقة أبى بكر بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، وأن يستعمل فى ذلك أدب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الرسولُ كعبَ بن مالك وأبا لبابة‏.‏

وأما إجازته لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، الصدقة بماله كله، فهو إعلام منه أمته أن ذلك جائز غير مذموم وردُّه على كعب، وأبى لبابة ما رَدَّ، وأمرهُ لهما بإخراج الثلث إعلامٌ منه بموضع الاستحباب والاختيار، لا حَظْرا منه للصدقة بجميع المال، والدليل على ذلك إجماع الجميع على أن لكل مالك مالا إنفاق جميعه فى حاجاته، وصرفه فيما لا يحرم عليه من شهواته، فمثله إنفاق جميعه فيما فيه القربة إلى الله، إذ إنفاقه فى ذلك أولَى من إنفاقه فى شهواته، ولذاته‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما قوله‏:‏ وأما من تصدق وعليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه‏.‏

فهو إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه‏.‏

وقوله‏:‏ إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه‏.‏

فإنما يرجع هذا الاستثناء إلى قوله‏:‏ من تصدق وهو محتاج‏.‏

ولا يرجع إلى قوله‏:‏ أو عليه دين، للإجماع الذى ذكرنا، ومن بلغ منزلة الإيثار على نفسه، وعلم أنه يصبر على الفقر، ويصبر أهله عليه، فمباح له أن يؤثر على نفسه، ولو كان بهم خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الأنصار بالمهاجرين، وكما فعل أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وإن عرف أنه لا طاقة له ولا لأهله على مقارعة الفقر والحاجة، فإمساكه لماله أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وابدأ بمن تعول‏)‏ وقد روى عباد بن العوام عن عبد الملك بن عمير، عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا صدقة إلا عن ظهر غنى‏)‏ لفظ الترجمة وهو معنى قوله‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏)‏‏.‏

اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏‏.‏

فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالى الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالى الأمور، وفيه‏:‏ حض على الصدقة أيضًا‏.‏

لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطِى مفضل على المعطَى، والمفضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يُرِدْ صلى الله عليه وسلم أن المفضَّل فى الدنيا خير فى الدين، وإنما أراد فى الإفضال والإعطاء‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وتفسيره فى هذا الحديث‏:‏ اليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة تفسير حسن، وفيه وجه آخر أشبه بمعنى الحديث، وهو أن تكون العليا هى المتعففة، وقد روى ذلك مرفوعًا‏:‏ حدثونا عن علىِّ بن عبد العزيز، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يخطب يقول‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا المتعففة‏)‏‏.‏

ورواه ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة‏)‏‏.‏

قال أبو داود‏:‏ ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله، ويؤكد هذا ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، وسعيد بن المسيب، أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال حكيم‏:‏ ما كنت أظن يا رسول الله ‏[‏أن‏]‏ تقصر بى دون أحد‏.‏

فزاده حتى رضى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، قال‏:‏ ومنك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ومنى‏)‏، قال‏:‏ والذى بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فلم يقبل عطاء ولا ديوانًا حتى مات‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ فلو كانت اليد العليا المعطية، لكان حكيم قد توهم أن يدًا خير من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏(‏ومنك يا رسول الله‏)‏ يريد أن التعفف من مسألتك كهو من مسألة غيرك، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد‏.‏

وروى فى وجه ثالث عن الحسن، قال‏:‏ اليد العليا المعطية، واليد السفلى المانعة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث عروة وسعيد مرسل، والمسند أقطع فى الحجة عند التنازع‏.‏

باب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 262‏]‏ ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى الذى يعطى ماله المجاهدين فى سبيل الله معونة لهم على جهاد العدو، ثم يمن عليهم بأنه قد صنع إليهم معروفًا إما بلسان أو بفعل، والأذى أن يقول‏:‏ إنهم لم يقوموا بالواجب عليهم فى الجهاد‏.‏

وشبه ذلك من القول، ومن أخرج شيئًا لله لم ينبغ أن يمن به على أحد، لأن ثوابه على الله تعالى‏.‏

وروى أبو ذر، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة‏:‏ المنان الذى لا يعطى شيئًا إلا منهُ، والمنفقة سلعته بالحلف، والمسبل إزاره‏)‏‏.‏

ذكره مسلم من حديث سفيان، عن الأعمش، عن سليمان ابن مسهر، عن خراشة بن الحر، عن أبى ذر‏.‏

باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا

- فيه‏:‏ عُقْبَةَ بْن الْحَارِثِ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم صلى الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ- أَوْ قِيلَ لَهُ- فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْتُ خَلَّفْتُ فِى الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث‏:‏ حض وندب على تعجيل الصدقات وأفعال البر كلها إذا وجبت، وإنما عجل صلى الله عليه وسلم تلك الصدقة، لأنه خشى أن يكون محتاجًا من وجب له حق فى ذلك التبر فيحبس عنه حقه تلك الليلة، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا فبين لأمته، ليقتدوا به صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، قَالَ‏:‏ خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَبِلالٌ مَعَهُ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ‏:‏ ‏(‏اشْفَعُوا، تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُوكِى، فَيُوكَى الله عَلَيْكِ ولا تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ‏)‏‏.‏

وترجم لحديث أسماء باب ‏(‏الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ‏)‏، وزاد فى آخره‏:‏ ‏(‏ارْضَخِى مَا اسْتَطَعْتِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الشفاعة فى الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا‏)‏، فندب أمته إلى السعى فى حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء‏)‏ أن الساعى مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه‏)‏‏.‏

وقد احتج أبو حنيفة والثورى بحديث ابن عباس، فأوجبوا الزكاة فى الحلى للباس، وقال مالك‏:‏ لا زكاة فى الحلى، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء‏.‏

قال ابن القصار، والمهلب‏:‏ ولا حجة فى حديث ابن عباس لمن أوجب الزكاة فى الحلى، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حَضَّهُنَّ على صدقة التطوع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقن ولو من حليكن‏)‏، ولو كان ذلك واجبًا، لما قال‏:‏ ‏(‏ولو من حليكن‏)‏‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ ومما يَرُدُّ قول أبى حنيفة أن لو كان ذلك من باب الزكاة لأعطينه بوزن ومقدار، فدل أنه تطوع‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ الحلى الذى يكون زينة النساء ومتاعًا هو كالأثاث، وليس كالرقة التى وردت السنة بأخذ ربع العشر منها‏.‏

والرقة عند العرب الورق ذات السكة السائرة بين الناس، وعلى هذا جرى العمل بالمدينة لا خلاف عندهم أنه لا زكاة فيه، وذكر مالك، عن عائشة، أنها كانت تحلى بنات أخيها يتامى كن فى حجرها بالحلى فلا تخرج منه الزكاة، وكان يفعله ابن عمر‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أسماء‏:‏ ‏(‏لا توكى فيوكى الله عليك‏)‏، فإنما سألته عن الصدقة، وقالت له‏:‏ يا رسول الله، ما لى إلا ما يُدخل علىّ الزبير، أفأتصدق‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تصدقى ولا توكى فيوكى الله عليك‏)‏‏.‏

وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن عائشة قالت لخادمها‏:‏ ما أعطيت السائل‏؟‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحصى فيحصى الله عليك‏)‏، ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏لا توكى فيوكى الله عليك‏)‏، أى لا توكى مالك عن الصدقة، فلا تتصدقى خشية نفاده، فيوكى الله عليك، أى يمنعك كما منعت السائل‏.‏

دَلَّ هذا الحديث أنَّ الصدقة قد تنمى المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق، فإن الله يوكى عليه، ويمنعه من البركة فى ماله والنماء فيه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارضخى ما استطعت‏)‏، أى تصدقى ما استطعت‏.‏

والعرب تقول‏:‏ رضخ له من ماله رضخًا، أى أعطاه قليلاً من كثير، عن صاحب الأفعال، وقال صاحب العين‏:‏ القُلْبُ من الأسورة ما كان قلدًا واحدًا‏.‏

والقُلْب‏:‏ الحية البيضاء، والخرص حلقة فى الأذن، عن غيره‏.‏

باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قول رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْفِتْنَةِ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ‏:‏ إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِىءٌ، فَكَيْفَ قَالَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ‏(‏فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ‏)‏‏.‏

قَالَ سُلَيْمَانُ‏:‏ قَدْ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ‏)‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتنة الرجل فى أهله وولده وجاره‏)‏ يريد ما يفتتن به من صغار الذنوب التى تكفرها الصلاة والصدقة وما جاء منه، وسأشبع القول فى تفسير هذا الحديث فى كتاب الصيام، فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله تعالى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه‏:‏ ضرب الأمثال فى العلم‏.‏

وفيه‏:‏ حجة لما يتكلم به أهل العلم من قطع الذرائع، ويعبرون عنه بغلق الباب وبفتحه كما عبر عنه حذيفة وعمر، وأن ذلك من المتعارف من الكلام‏.‏

وفيه‏:‏ أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند العالم المبرز‏.‏

وفيه‏:‏ أن العلم قد يرمز به رمزًا ليفهم المرموز له دون غيره، لأنه ليس كل العلم تجب إباحته إلى من ليس بمتفهم له، ولا عالم بمعناه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الكلام فى الحدثان مباح إذا كان فى ذلك أثر عن النبوة، وما سوى ذلك ممنوع، لأنه لا يصدق منه إلا أقل من عشر العشر، وذلك الجزء إنما هو على غلبة الظن، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيزيد إليها أكثر من مائة كذبة‏)‏‏.‏

باب مَنْ تَصَدَّقَ فِى الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ

- فيه‏:‏ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ‏؟‏ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ‏)‏‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ معنى هذا الحديث‏:‏ أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له أجر كل خير عمله قبل إسلامه، ولا يكتب عليه بشىء من سيئاته، لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير، لأنه إنما أراد به وجه الله، لأنهم كانوا مقرين بالله إلا أن علمهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شركهم، فلما أسلموا تفضل الله عليهم، فكتب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد‏)‏‏.‏

ومما يدل على صحة ذلك ما رواه عبد الله بن وهب، قال‏:‏ حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه، كتب الله كل حسنة كان زلفها، ومحا عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بَعْدُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولعل حكيمًا لو مات على جاهليته أن يكون ممن يخفف عنه من عذاب النار، كما جاء فى أبى طالب أنه أخف أهل النار عذابًا، ومثل ذلك ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها‏:‏ ثويبة، وكانت قد أرضعت النبى صلى الله عليه وسلم فرأى أبا لهب بعضُ أهله فى النوم، فسأله فقال‏:‏ ما وجدت بعدكم من راحة غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة‏)‏‏.‏

وسيأتى فى كتاب العتق فى باب عتق المشرك، اختلاف أهل العلم فى عتق المشرك، إن شاء الله‏.‏

باب قَوْله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏إلى‏)‏ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5- 10‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا‏:‏ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الحديث‏:‏ الحض على الإنفاق فى الواجبات، كالنفقة على الأهل وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع، والفرض، ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ ومصداق الحديث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏ يعنى ما أنفقتم فى طاعة الله، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ابن آدم، أنفق أُنفق عليك‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وصدق بالحسنى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 6‏]‏ صدق بالخلف من الله تعالى‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ صدق بلا إله إلا الله‏.‏

وروى عن ابن عباس أيضًا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ صدق بالجنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ صدق بموعود الله على نفسه، فعمل به‏.‏

قال ابن الأدفوى‏:‏ وأشبه الأقوال عندى قول من قال‏:‏ وصدق بالخلف من الله تعالى لنفقته، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى ‏(‏فكان أولى المعانى به أن يكون عقيبه الخبر بتصديقه بوعد الله بالخلف، ويؤيد ما قلناه حديث أبى هريرة، وقول الملائكة‏:‏ ‏(‏اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا‏)‏، وأنزل الله تعالى فى القرآن‏)‏ فأما من أعطى واتقى‏}‏ الآية‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق، روى أنه اشترى تسعة كانوا فى أيدى المشركين لله، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وروى أنها نزلت فى رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها، فابتاعها رجل منه، وتصدق بها عليهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 7‏]‏ يريد الحالة اليسرى، وهى العمل بما يرضاه الله تعالى منه فى الدنيا ليوجب له به الجنة فى الآخرة‏.‏

وقالوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذب بالحسنى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 9‏]‏ وكذب بالخلف، عن ابن عباس، وروى عنه أيضًا‏:‏ كذب بلا إله إلا الله‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كذب بموعود الله تعالى‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏وكذب بالحسنى ‏(‏الجنة‏)‏ فسنيسره للعسرى ‏(‏أى للعمل بالمعاصى‏.‏

ودلت هذه الآية أن الله تعالى الموفق للأعمال الحسنة والسيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل الشقاء، ثم قرأ‏:‏ ‏(‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5، 6‏]‏ الآية‏)‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ العسرى‏:‏ النار‏.‏

فإن قيل‏:‏ التيسير إنما يكون للحسنى فكيف جاء للعسرى‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ أى أن ذلك يقوم لهم مقام البشارة‏.‏

وأنشد سيبويه‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع ***

وقال الفراء‏:‏ إذا اجتمع خير وشر، فوقع للخير تيسير، جاز أن يقع للشر مثله‏.‏

باب مَثَلِ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ، فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ، فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَّسِعُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الله تعالى ينمى مال المتصدق، ويستره ببركة نفقته بالنماء فى ماله، ألا ترى ضربه صلى الله عليه وسلم المثل بالجبتين، فإن المنفق يستره الله بنفقته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته بالفعل فى الدنيا وبالأجر فى الآخرة، فماله لا يشتد عليه، وأما البخيل فيظن أن ستره فى إمساك ماله، فمالُه لا يمتد عليه فلا يستر من عوراته شيئًا حتى تبدو للناس فيبقى منكشفًا كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه، ولا تجاوز قلبه الذى يأمره بالإمساك، فهو يفتضح فى الدنيا، ويؤزر فى الآخرة‏.‏

باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى عن ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ‏(‏قال‏:‏ من أطيب أموالكم وأنفسها‏.‏

وقال على بن أبى طالب‏:‏ من الذهب والفضة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ من التجارة الحلال‏.‏

وقال عبيدة السلمانى‏:‏ سألت على بن أبى طالب عن هذه الآية، فقال‏:‏ نزلت فى الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الردئ، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ وروى هذا القول عن قتادة، والحسن، وعطاء، ومجاهد‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏ولا تيمموا الخبيث ‏(‏من الحرام‏)‏ منه تنفقون ‏(‏وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب‏.‏

هذا قول ابن زيد، والتأويل هو قول الصحابة والعلماء‏.‏